كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه.
الشبهة الثانية قولهم {أنه أساطير الأولين} اي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم {اكتتبها} لنفسه كقولك استكب الماء أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلبًا لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتتبها وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. قال الضحاك: ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة، وقال جار الله {بكرة وأصيلًا} أي دائمًا أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. فأجاب عن هذه الشبهة بقوله: {قل أنزله الذي يعلم السر} الآية. والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال أبومسلم: أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرجمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة. وقيل: هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه.
الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن {ما لهذا} الزاعم أنه رسول أي ما باله {يأكل الطعام} كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد. زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكًا مستغنيًا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنسانًا معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهرًا بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فقالوا: لا أقل من أن يكون كواحد ن الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين. وانتصب {فيكون} لأنه جواب لولا بمعنى هلا وحكمه حكم الاستفهام ومحل {أنزل} الرفع كما يقول: لولا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين {وقال الظالمون} من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلًا عليهم بالظلم فيما قالوا، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله. والمسحور المغلوب على عقله، والأمثال الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولًا يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقًا إليه. وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل.
وحين حكى شبههم ومطاعنهم مدح نفسه بما يلجمهم ويفحمهم وهو قوله: {تبارك} أي تكاثر خبر {الذي إن شاء} وهب لك في الدنيا خيرًا مما قالوا: ثم فسر ذلك الخبر بقوله: {جنات} عن ابن عباس: خيرًا من ذلك أي مما عيروك بفقده الجنة الواحدة.
وعنه في رواية عكرمة خيرًا من المشي في الأسواق لابتغاء المعاش. وفي قوله: {إن شاء} دليل على أنه لا حق لأحد من العباد عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن حصول الخيرات معلق بمحض مشيئته وعنايته. وقيل: {إن} بمعنى إذ أي قد جعلنا لك في الآخرة وبنينا لك قصورًا. والقصر المسكن الرفيع فيحتمل أن يكون لكل جنة قصر وأن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد: إن شاء جعل لك في الآخرة جنات وفي الدنيا قصورًا. عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبرائيل عنده قال جبرائيل: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك. فلم يلبث إلا قليلًا حتى جاء الملك وسلم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء ولم يعطها احدًا قبلك ولا يعطيها أحدًا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «بل يجمعها لي في الآخرة» فنزلت هذه الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «عرض عليّ جبرائيل عليه السلام بطحاء مكة ذهبًا فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات» وفي رواية «أشبع يومًا وأجوع ثلاثًا فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت» قوله: {بل كذبوا بالساعة} عطف على ما حكى عنهم يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها إذ لا يرجون ثوابًا ولا عقابًا. ويجوز أن يراد ليس ما تعلقوا به شبهة عالية في نفس المسألة بل إنما حملهم على ذلك تكذيبهم بالساعة استثقالًا للاستعداد لها. {وأعتدنا} جعلناها عدة ومعدة لهم. وقد يستدل به على أن النار مخلوقة ويحتمل أن يقال: هو كقوله: {ونادى} [الأعراف: 48] {وسيق} [الزمر: 73] قالت الأشاعرة: البنية ليست شرطًا في الحياة وتوابعها فأجروا قوله: {إذا رأتهم} على ظاهره وقالوا: لا امتناع في كون النار حية رائية مغتاظة على الكفار.
والمعتزلة أوّلوا فقالوا: معنى رأتهم ظهرت لهم في قولهم دورهم تتراءى وتتناظر كأن بعضها يرى بعضًا على سبيل المجاز. والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. وقال الجبائي: ذكر النار واراد خزنتها والمراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبًا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. قيل: التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعًا فكيف قال الله سبحانه: {سمعوا لها تغيظ} وأجيب بأن المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت أي سمعوا لها صوتًا يشبه صوت المتغيظ.
قاله الزجاج وقال قطرب: علموا لها تغيظًا وسمعوا لها زفيرًا كما قال الشاعر:
متقلدًا سيفًا ورمحًا... يروى أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجثو على ركبتيه ويقول: نفسي نفسي.
وحين وصف حال الكفار إذا كانوا بالبعد من جهنم وصف حالهم عندما يلقون فيها. عن ابن عباس أنه يضيق عليهم المكان كما يضيق الزج على الرمح. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» قال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال جار الله: الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وجاء في الأحاديث «إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» وقال الصوفية.: المكان الضيق قلب الكافر في صدره كقوله: {يجعل صدره ضيقًا حرجًا} [الأنعام: 125] ثم إن أهل جهنم مع ما هم فيه يكونون مقرنين في السلاسل والأصفاد وقد مر في آخر سورة إبراهيم. والثبور الهلاك ودعاؤه النداء بواثبوراه اي يقال يا ثبور فهذا أوانك وههنا إضمار اي يقال لهم {لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا} إذ هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثمة قول. ومعنى {وادعوا ثبورًا كبيرًا} أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدًا إنما هو ثبور كثير. إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم، أو لأنهم يجدون بسبب ذلك القول خفة فإن المعذب إذا صاح وبكى وجد بسببه راحة. قال الكبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات. ثم وبخهم بقوله: {قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون} أي وعدوها فحذف الرابط للعلم به وليس هذا الاستفهام كقول القائل السكر أحلى أم الصبر ولكن الغرض منه التقريع كلما إذا أعطى السيد عبده مالًا فتمرد وأبى واستكبر فضربه ضربًا وجيعًا ويقول على سبيل التوبيخ: هذا أطيب أم ذاك؟ والإضافة في جنة الخلد للتوضيح والتأكيد لا للتمييز فإن الجنة معلوم أن نيعمها لا ينقطع. قالت الشاعرة: في قوله: {وعد} دلالة على أن الجنة إنما تستحق بحسب الوعد والفضل لا لأجل العمل. وقالت المعتزلة: في قوله: {المتقون} إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى ولذلك أكد بقوله على سبيل التخصيص بسبب تقديم الجار {كانت لهم جزاء ومصيرًا} أجابت الأشاعرة بأن كونه جزاء ثبت في الأزل ولا عمل هناك. قالت المعتزلة: لا غفران لصاحب الكبيرة لأن الجنة جاءت جزاء للمتقين خاصة فلا يعطى حقهم غيرهم.
أجابت الأشاعرة بأنه لم لا يجوز أن يرضى المتقون بإدخال الله أهل العفو الجنة؟ قال جار الله: ذكر المصير مع ذكر الجزاء مدحًا للثواب مكانه كقوله: {نعم الثواب وحسنت مرتفقًا} [الكهف: 31] وفي قوله: {لهم فيها ما يشاؤن} دلالة على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون إلا في الجنة، وأما في الدنيا فالراحات فيها مخلوطة بالجراحات. والضمير في {كان} {لما يشاؤن} واستدلت المعتزلة بقوله: {على ربك} أن ذلك واجب على الله حتى إنه لو لم يفعل استحق الذم. وأجيب بأنه واجب بحكم الوعد لقوله: {وعدًا مسؤلًا} كأن المكلفين سألوا بلسان الحال من حيث تحملوا المشقة الشديدة في طاعته، أو سألوه حقيقة بقولهم {ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران: 194] أو سألته الملائكة في قولهم {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} [غافر: 8] أو من حقه أن يسأل ويطلب لأنه حق واجب بحكم الاستحقاق أو بحسب الموعد على المؤمنين.
قوله: {يوم نحشرهم} رجوع إلى قوله: {واتخذوا من دونه آلهة} وظاهر قوله: {وما يعبدون} أنها الصنام وظاهر قوله: {أأنتم أضللتم} أنه من عبد من العقلاء كالملائكة والمسيح فلأجل هذا اختلفوا فحمله قوم ومنهم الكلبي على الأوثان ثم قالوا: لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيها الحياة والنور والنطق، أو أراد أنهم تكلموا بلسان الحال. وقال الأكثرون: إنه عام للأصنام وللمعبودين العقلاء نظيره قوله: {ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} [سبأ: 40] ثم قالوا: إن لفظة ما قد تستعمل في العقلاء، أو أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبوديهم كما إذا أردت السؤال عن صفة زيد فتقول: ما زيد تريد أطويل أم قصير. والسائل الله وحده أو الملائكة بإذنه. وإنما قال أنتم وهم ولم يقل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل، لأن السؤال وقع عمن تولى فعل الإضلال لا عن نفس الإضلال. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب أن يجيب المعبودين بما أجابوا به حتى يحصل لعبدتهم الإلزام والتوبيخ كما قال لعيسى {أأنت قلت للناس} [المائدة: 116] وكان القياس أن يقال: ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل هداه إلى الطريق أو للطريق. {قالوا سبحانك} تعجبًا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وأنطقوا ب {سبحانك} ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون الموسومون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له ملك أو نبي أو غيرهما ندًا، أو قصدوا تنزيهه من أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفاده علم أو إيذاء من كان بريئًا من الجرم بل إنما سألهم تقريعًا للكفار وتوبيخًا لهم.
من قرأ {أن نتخذ} بفتح النون فظاهر وهو متعدٍ إلى واحد والأصل أن نتخذ أولياء من دونك فزيدت {من} لتأكيد معنى النفي. ومن قرأ بضم النون فهو متعدٍ إلى اثنين: الأول ضمير نحن، والثاني من أولياء. ولا تكون {من} زائدة لأنها لا تزاد في المفعول الثاني تقول: ما اتخذت من أحد وليًا ولا تقول ما أتخذت أحدًا من ولي ف {من} للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء. وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام، والمعنى إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا. وفي تفسير الآية على القراءة الأولى وجوه: الأول أن المعنى إذ كنا لا نرى أن نتخذ من دونك وليًا فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ الثاني: ما كان يصح لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشيطان} [النساء: 76] يريد الكفرة عن أبي مسلم: الثالث تقدير مضاف محذوف أي ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلنا. أو قالت الملائكة: أنا وهم عبيد ولا ينبغي لعبيدك أن يدعوا من دون إذنك وليًا. الرابع قالت الأصنام: لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادّعاء أنا من المعبودين. وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله، والولاية المبنية على ميل النفس وشهوة الطبع مذمومة شرعًا. و{الذكر} ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة. قالت المعتزلة: في قوله: {ولكن متعتهم} الخ. دليل بيِّن على أن الله عز وجل لا يضل عباده على الحقيقة وإلا كان جواب العبيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم لا أن يقولوا بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وعلى آبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشر سبب الكفر ونسيان الذكر. فالحصال أنهم ضلوا بأنفسهم لا بإضلالنا. وقالت الأشاعرة: بل فيه دلالة على أن الله تعالى هو المضل حقيقة كأنهم قالوا: إلهنا أنت الذي أعطيتهم جميع مطالبهم في الدنيا حتى استغرقوا في بحر الشهوات وأعرضوا عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك. أما قوله: {وكانوا قومًا بورًا} فالأكثرون على أن البور جمع بائر من البوار الهلاك كعائذ وعوذ وحائل وحول. وحكى الأخفش أنه اسم جمع يقال رجل بور أي فاسد هالك لا خير فيه وامرأة بور وقوم بور كما يقال أنت بشر وأنتم بشر. قالت المعتزلة: صاروا إلى الهلاك بسبب اختيارهم الضلال. وقالت الأشاعرة: أراد أنهم كانوا في اللوح المحفوظ من جملة الهالكين ولو قيل: إنه فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر صح القول بالقدر أيضًا.